"" نهاية المطاف ،، الوصول إلى جذور هذا الداء الفكري !! "" ( تابع - أدب التعامل مع الدليل-)

المقال

"" نهاية المطاف ،، الوصول إلى جذور هذا الداء الفكري !! "" ( تابع - أدب التعامل مع الدليل-)

3926 | 13-09-2010 12:15
** في نهاية المطاف نصل إلى جذور بذرة هذا الداء :

وبـعد :
أخي القارئ بعد هذا المشوار الطويل والممل :

فإن هذا الداء العقلي والفكري من الأدواء التي يغفل عنها خواص الناس ومصلحوهم فضلاً عن عوامهم لذا فلعل مثل هذه الدراسة البسيطة أن تفتح الأفق الأوسع إلى تركيز الدراسة والتحليل والنظر إلى هذا الأمر لكي نحصّن أنفسنا ومجتمعنا من التبعات والنتائج المترتبة على سريان هذا الداء وكونه ينخر في العقل الذي هو أساس التكليف ومدار العقيدة التي هي أصل الدين .

ومن هنا أدرك أعداء الإسلام قوة هذا الداء فعملوا على نشره وإذاعته في المجتمع المسلم وبأبسط وأسرع وأرخص الوسائل وهذا ليس وليد الساعة ، بل يضرب في أعماق تاريخ الحقد والعداء من قبل الكفار على دين الإسلام وأهله ، ولك أن تكتشف كثيراً من الدروس في هذا الحدث التاريخي الذي يتجلى به الكثير من ألغاز وأسرار هذا الداء الخطير :

فإن الخليفة العباسي السابع (المأمون) بإيعاز من المعتزلة الذين تأثر بهم كثيراً ، كان يراسل ملوك الأرض بأن يرسلوا إليه ما عندهم من كتب في الفلسفة والكلام القائمة على الإلحاد والكفر وعدم الخضوع لله تعالى ولأوامره.

فأرسل إلى ملك صقلية (جورج الأول) يطلب منه أن ينسخ مجموعة من كتب الخزانة في دولته ويرسلها إلى المأمون : فجمع جورج مستشاريه من أعيان الدولة : فأكثرهم أشار بعدم ذلك لما بينهم وبين المسلمين من حروب ومعارك قائمة ، لكنّ عالماً من بين المستشارين قال : بل الأفضل أن تنسخ لهم تلك الكتب وسوف تثاب عليه ولن تعاقب ، فوالله ما دخلت هذه الكتب على قوم إلا و فرقت دينهم أحزاباً وشيعاً ، وما دخلت في ملّة إلا زلزلت قواعدها !! ".

ولما جاءت تلك الكتب ومواد التشرذم !! لم يجد من يستطيع ترجمتها من اللغة اللاتينية إلا اليهود فطلب منهم ترجمتها فكتبوها بسرعة ، وأعطيت للوراقين بأسعار متدنية فالمجلدة من كتب الاسلام (10) دنانير ، وتلك باعوها ( 1 ) دينار واحد !!! فلو دخل الشخص العادي إلى الوراقين فسيشتري الأرخص فعشر مجلدات بعشرة دنانير !! أوفر من مجلدة واحدة بنفس السعر !! .
***
ومن هنا بدأت قصة التشرذم والسفسطة والأمراض الفكرية والتشكيك بكل معلومة ولو كانت ثابتة بالوحي من كتاب وسنة ، وهذا فيه دلالة على تجذر هذا المرض في جسد الأمة ، وأنه من الصعوبة بمكان أن نتصور سهولة معالجته وبساطتها ، بل الأمر يحتاج إلى الكثير والكثير من الدراسات والأبحاث التي يجب أن تتركز على محورين : الأول : في التصوير والتحليل ، والثاني : في وصف العلاجات الناجعة .
***
وبعد هذا المثال التاريخي لما قبل ( ألف و مئتي ) سنة للهجرة الذي رسم لنا البعد التاريخي للسفسطة ، نذكر مثالاً تاريخياً آخر يدل على استمرارية هذه الأمراض الفكرية في عديد من فئام الأمة، لكنّ هذا المثال قبل ( تسعين ) سنة تقريباً ، يعني في منتصف القرن الماضي ، حيث إن الفقيه الجليل عبد القادر بن بدران الدمشقي (1346هـ) يصور لنا وجود هذه الأمراض الفكرية في عصره الذي يعيشه ، حيث أشار إلى مرض عقلي قائم على التشكيك وعدم الاقتناع ببعض المعلومات ، وهذا المرض يسمى في الاصطلاح الخاص بالأمراض العقلية (مرض السُمَنية) وهذا المرض العقلي يلتقي مع (السفسطة)في جانب الأمور والمعلومات التي لا تدرك بالحواس الخمس ، فكل أمر لا يدرك بالحواس الخمس أو أحدها فإن هذه الحالة المرضية تقوم على التشكيك فيه ، وعدم الاعتراف به أبداً .
ومن هنا نعرف أن السمُنية هي المرحلة الأولى للمرض العقلي الفكري لأنها خاصة فيما هو خارج عن الحواس الخمس ، ثم تتدهور الحالة ويشتد المرض فتؤدي مضاعفاته إلى وصول هذا العطب إلى الجانب الفكري المتعلق بالحواس الخمس أيضاً فيصبح العقل البشري معطوبا تماماً بالنسبة لأجهزة تلقي وتحليل وتوثيق المعلومات ومن ثم أجهزة تبادلها استقبالاً وإرسالاً فيكون ( كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءًا ونداءا صم بكم عمي فهم لا يعقلون )الآية : ينعق فيرفع الصوت في إرسال المعلومة لكن تلك المعلومة أيّا كانت جودتها وقوتها وأيّا كان المرسل فإنها ستصل لعقل مريض ، بل معطوب بهذا المرض الذي يحجم العقل ويضعف قواه حتى يكون أداؤه كأداء عقول البهائم من حيث الطاقة الاستيعابية للمعلومات تحليلاً وفهماً وتوثيقاً وإرسالاً ، فالبهائم لا يحلل عقلها إلا رسالتي اذهبوا بالدعاء وتعالوا بالنداء ، وهذا ليس أمراً مرضياً بالنسبة للعقل البهيمي بل هو أمر صحي لأنه يسير حسب حجم إمكانياته وقواه الطبيعية ، أما الإنسان فقد أودعت في عقله كميات هائلة من القوى التي ركبها الباري سبحانه في الإنسان لتحلل وتوثق وتفهم بل وتصدّر المعلومات الطبيعية.

فمرض السمنية هو أحد شقي مرض السفسطة .

وقد ذم وتوعد ربنا جل وعلا من يتعاطى المعلومات باستخدام التفكير الضيق ، فقال تعالى : ( إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر*ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر ) الآيات .

فهذا المشرك فيلسوف قريش –كما وصفه ابن تيمية- لو استخدم عقله بغير تلك الطريق الضيقة التي كانت تتركز على جانب التكذيب فقط ، مما جعله ينتج تلك الأوصاف الشنيعة التي إنما بنيت على جانب التكذيب فقط وما بني على باطل فباطل ، لكنه لو عرض رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على جانب الحق والتسليم لرأى من المعجزات النبوية والآيات الباهرة الدالة على وجوب التصديق و الاتباع له صلى الله عليه وسلم .

من هنا جاء الشرع بذم هذه الطريقة في التفكير و النظر في المعلومات والتي اختزلت القوى العقلية وضيقتها حتى صارت تنظر إلى الأشياء من زاوية ضيقه لتكون نتائج ذلك النظر ضيقة كذلك ، وهذا ما بينه الباري سبحانه بقوله (إنه فكر وقدر) ، وبين سبحانه أن الذي أحلّ على هذا المفكر المقت وأصابه في مقتل ليس مجرد التفكير بل تقدير التفكير وتضييقه (فقتل كيف قدر) والتقدير يأتي بمعنى التضييق كما في قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ) ، وهذا النوع من التفكير يسير في فلك السمنية.

وأصل كلمة : (السمنية) يعود على صنم كان يعبد في الهند ونسبت إليه هذه الفرقة الهندوسية والتي هي المصدر لهذا الفايروس والوباء الفكري ومن ثم صدّروه إلينا عندما أرسلوه في بطون تلك الكتب التي كانت ترسل إلينا ولم يكن في ذلك حجر صحي على حدود الدولة المسلمة أو مختبرات تحلل تلك البضائع لتمنع دخول الأوبئة التي كم قضت على الفئام من الناس خارج المجتمع المسلم الذي طالما عاش في نقاء وصفاء من الأوبئة الفكرية بسبب انتشار شريعة الباري سبحانه ، نعود إلى العالم الجليل ابن بدران الدمشقي (1346هـ) وكلامه على تلك الأمراض العقلية حيث يقول وبأسلوب جميل وبسيط كعادته : (ولعلك تقول لا فائدة في البحث مع هؤلاء ؛لأنهم خارجون عن أهل الشرائع ، وهذا الكتاب موضوع كغيره في أصول الفقه الإسلامي ، فنقول: نعم نقول بقولك لو كان هذا القول محصوراً بهم ، ولكننا نشاهد !! الكثير من قومنا وأهل زمننا ممن يشتغل بالفلسفة لا يصدق إلا بما يراه بإحدى حواسه الخمس وينكر كل ما غاب عن المشاهدة ، ويجر ذلك إلى إنكار الجن والملائكة فالكلام مع هؤلاء كالكلام مع السمُنية وإن خالفوهم في الاسم) أ.هـ
**
وفي مشهد لأستاذ مريض بهذا المرض الفكري ، والغريب في هذا المشهد أن يكون علاج هذا الأستاذ على يد أحد الأطفال الذين يدرسون عنده في المدرسة ، حيث كان عقل هذا الطفل عقلاً طبيعياً سليماً من الآفات والأوبئة ، وبنفس الوقت كان عقله لديه قدرة على بث معقمات تقضي على ما حوله من سموم محمّلة بهذا المرض :

المشهد : أن أستاذاً قال لتلاميذه الصغار : هل ترون الأستاذ ؟ قال الطلاب : نعم ! قال : إذن الاستاذ موجود. هل ترون السبورة ؟ قالوا نعم قال : فهي موجودة . هل ترون الطبشورة ؟ ...-- ثم توجه لهم بالسؤال الأخطر والمحمّل بذلك المرض ولنعلم يقيناً أن غاية إبليس من نشر وصناعة هذه الأمراض الفكرية هي أن يكفر الناس بربهم وخالقهم سبحانه وتعالى ،،--

سألهم السؤال الأخطر فقال: هل ترون الله ؟؟ فقالوا بفطرتهم وبساطتهم : لا . فقال تلك النتيجة الكفرية المرضية : إذن الله غير موجود !!

فكان الجواب والعلاج أن قام أحد الطلاب فقال : هل ترون الطاولة ؟ فقال زملاؤه : نعم ! فقال إذن هي موجوده ، هل ترون الاستاذ ؟ قالوا نعم ! قال : إذن هو موجود ، ثم جاء بالصعقة التي قضت على هذا الداء العقلي فقال التلميذ : هل ترون عقل الأستاذ ؟؟!! ، قالوا : لا !! فقال : إذن عقل الاستاذ غير موجود !! فبهت الذي كفر.

فانظر : كيف يكون الاستخدام الجيد للفكر يسلّم من الكفر ، والاستعمال الخاطئ له يودي بالإنسان إلى ظلمات الكفر نعوذ بالله من ذلك ، فالفكر والكفر اتحدا في التركيب وفي التأثير كذلك فلا بد أن يكون الفكر مسلماً لخالقه سبحانه ، وأن يتبرأ من الأعمال والأعطال التي تخرجه عن الإذعان لله تعالى والاستجابة لتعاليمه ، من هنا نتيقن أن هذا الداء يهبط بالإنسان إلى غياهب الظلمات و مهاوي الردى ودركات الذنوب والمعاصي والضلال بداية من الذنوب الصغائر ثم الكبائر ثم الشرك الأصغر ثم النفاق العملي وانتهاءا بالشرك الأكبر والنفاق الاعتقادي و الكفر بالله تعالى ، ولعل ألصق تلك الجرائم والذنوب بالسفسطة وأقربها من المصاب بهذا الداء هو النفاق حيث إن لب و حقيقة النفاق تصب في قالب التشكيك والارتياب وعدم الإيمان الجازم والراسخ بما جاء به الشرع المطهر وهذه الأعراض ملازمة ومصاحبة لداء السفسطة دائماً .
**
من هنا نقول إن معرفة هذا الداء بكل تفاصيله ومعرفة العلاج المناسب له سيبني في الأمة سدوداً منيعة تحمي من طوفان الكفر والنفاق الذي لا يزال شياطين الإنس والجن ليل نهار يسعون لإغراق الأمة به ، ولم يكتفوا بإرسال هذا الطوفان بل اتجهوا بمعاول الهدم إلى تلك السدود والحصون لهدمها أو خرقها !! وما أجمل قول الشاعر :
إن النفاق لآفة فتاكــة :: إن أهملت أدت إلى الأسقام .

***********

موقع أصول الفقه