""السفسطة قديماً ""( تابع لسلسلة أدب التعامل مع الدليل)

المقال

""السفسطة قديماً ""( تابع لسلسلة أدب التعامل مع الدليل)

2270 | 12-09-2010 11:07
** السفسطة قديماً :

ولعل هذا التقسيم والتحليل والتعمق في متسفسطي عاصرنا يجعلنا نحاول أن نرجع إلى سجلات تاريخ الفكر في العالم الإسلامي و إرشيفه لننظر إلى أجداد هذه العقول أو المراحل الأولى لتاريخ هذه الأمراض العقلية ، لنحاول المقارنة بين الأمس واليوم :

لقد انكشف لنا و بجلاء انطباق عبارة ابن تيمية – التي هي محور هذه الدراسة – وموافقتها تماماً للواقع الذي يعانيه كثير من كتاب الصحف والمشتغلين بالثقافة لدينا ، وفي نهاية المطاف سأنقل حرفياً كلام علماء سابقين حول رصد ظاهرة السفسطة الفكرية في أزمانهم السالفة وستعجب وتندهش لأنك ستظن أن أولئك العلماء يعيشون متخفين بين ظهرانينا ، أو يتكلمون عما سيقع في زمننا ولا يتكلمون عن تاريخ مضى واندثر.

لما جاءوا ليعرِّفوا السفسطة قالوا هي كلمة أعجمية – يعني امتداد لفكر من خارج العقلية العربية – ولها عدة معان بعد ترجمتها ، مع أنها تقوم على إنكار كل شيء حتى الأشياء المحسوسة بالحواس الخمس ، فلا يعترفون بأي موجود!! وتفرع عن هذا معان :

منها : (الحكمة المموهة ) فمدارها على التلون والتمويه والتلاعب في المعلومات والتفاعلات العقلية والفكرية .

ومن معانيها : (التجاهل يقال سفسط أي تجاهل ؛ فسموا بذلك لتجاهلهم أمام الناس أو تظاهرهم بالتجاهل !!).

ومن معانيها : (الهذيان ، فيقال : سفسط في الكلام إذا هذى في كلامه ) فتجسر الإنسان إلى أن يهرف بما لا يعرف ، وبأن يكتب قبل أن يقرأ !! وهذا مخالف للناموس العلمي الذي يبني الكتابة على القراءة .

وهذه المعاني لن تجد العنت والمشقة في تنزيلها على كثير وكثير ممن يتعاطى الكتابة في زماننا .

وللتّعمق في فكر !! السفسطائيين السابقين نواصل النقل عن علمائنا المتقدمين وأترك القارئ الحبيب يتأمل في كلام للطوفي – رحمه الله- المتوفى (716هـ) ، حين أشار إلى أنواع السفسطائيين وطرقهم في المراوغة الفكرية ، وأرجو منك أخي أن تحاول لا كشف أوجه الشبه بل أوجه الفرق لأنك لن تستطيع ذلك البتة بل ستقول ما أشبه الليلة بالبارحة ، وستفرّ من هذه العلل العقلية فرارك من الأسد :

يقول الطوفي : ( أما فرقهم فثلاث :

إحداهن : اللاأدرية : نسبة إلى اللاأدري ، وهؤلاء يقولون : لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه ، بل نحن متوقفون في ذلك ، ومن شبههم أنهم قالوا : رأينا المذاهب فوجدنا أهل كل مذهب يدعون العلم الضروري بصحة مذهبهم ، وخصمهم يكذبهم في ذلك ، وربما ادعى العلم الضروري ببطلان مذهبهم ، فأوجب ذلك التوقف .

الفرقة الثانية : تسمى العنادية : نسبة إلى العناد ؛ لأنهم عاندوا فقالوا : نحن نجزم بأنه لا موجود أصلاً ، وعمدتهم ضرب المذاهب ببعض ، والقدح في كل مذهب بالإشكال المتجه عليه من غير أهله .

الفرقة الثالثة : تسمى العندية : نسبة إلى لفظ عند ؛ لأنهم يقولون : أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس فيها فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده ).

قلت : وحدثني أحد علمائنا الأفاضل – شخصياً – أنه كان في مجلس من المجالس وكان المجلس يضم عدداً من العلماء والمثقفين والعقلاء ، وكان (المايكروفون) عند أحد المتحدثين ، وذلك المتحدث من كبار الكتاب الصحفيين لدينا ، وقد شابت لحيته من تحت جلده ، وقارب سن الشيخوخة وهو يتعاطى الكتابة والثقافة ، أتدرون ماذا قال ذلك المثقف وبعد هذا العمر من الثقافة والمعرفة والقراءة والكتابة ، وأنا لا أتكلم عن شاب مبتدئ يمكن أن يقال لعله مع الوقت يعرف ويكتشف .. ويَسلم مما وقع فيه ذلك الكهل المثقف ، بل أتكلم عن رجل شاب في حرفة الكتابة ومع هذا كله يقول : (لا ندري ربما يكون الحق مع الرافضة ليس مع أهل السنة !! ، ويلوم كل أهل السنة – وهو محسوب عليهم – ويقول : لا تدّعوا أن الحق معكم 100% ، فقد يكون الرافضة على الحق وأنتم على الباطل أ.هـ كلامه !! ، ما لبث هذا العالم أن صدم من هذا الكلام الخطير والذي يخرج من هذا المثقف الذي له وزنه !! فسرد هذا العالم أكثر من ثلاثين مكفراً لدى من يظن هذا الكاتب أن الحق معهم !! ) .

أسوق هذه القصة الواقعية لكي نعرف التطابق التام في الاستخدام الخاطئ لطرق التفكير لدى السابقين والمعاصرين ، مما يجعلنا نعلنها صيحة نذير للأمة عموماً ولمن يعمل في معامل الكتابة والتوجيه خصوصاً ونقول : (اتقوا الله في هذه العقول التي خلقها الله تعالى لكي نحسن استخدامها ونتحمل مسئولة رعايتها واستغلالها بالوجه المطلوب شرعاً وعقلاً ، وأن لا نجعلها ملعباً للهو وميداناً للعبث ، ومسرحاً للخداع الفكري وإلا سنتجه إلى الشك بديننا وخالقنا ونبينا وليس وراء هذا إلا الكفر والنار عياذا بالله ، أو نشك ونتردد بما هو دون ذلك من أحكام فلن نجني إلا الوبال والعصيان والبدع والضلال ، والضيق والحرج قال تعالى : " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعد في السماء " الآية .

وسنسقط من المنزلة المرتفعة التي جعلها الله لمن آمن به ووحده ، وسنهوي إلى أحط الدركات البهيمية اللاعقلية ، لعدم انتفاعنا بعقولنا الانتفاع الصحيح قال تعالى : " ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحـيق " الآية.

وتزداد الخطورة هنا عندما يبدأ هؤلاء بتصدير هذه السفسطة وبثها وإذاعتها في المجتمع "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم" الآية ، فتستمر هذه الطريقة التفكيرية الخاطئة يتلقفها المنخدعون أو المخادعون من كل جيل وعصر ومصر شعروا بذلك التلقف والانخداع أو لم يشعروا ، ولولا تلك الإذاعة والبث من قبل أولئك لقل المصابون بهذا الداء من الأمة ، ولأمكن الذهاب بهم إلى المصحات العقلية ليجدوا العلاج الناجع والعناية التأهيلية التي قد تعيدهم إلى عافيتهم العقلية ليصبحوا سواعد بناء للتركيبة الفكرية للمجتمع ، لا أن يكونوا معاول هدم للفكر الصحيح المستنير بنور الوحي المطهر .

ولا شك أن الناظر في حالنا اليوم يدرك بعد هذا الكلام خطورة هذا الداء لكثرة المصابين به من جهة ، ولكون المجتمع لم يعرف ولم يكتشف هذا الداء حتى الآن ، ولم يصنف إلى اليوم على أنه وباء يهدد أهم شيء في الكون وهو الإنسان ، في أهم شيء في الإنسان وهو العقل !! ، ومكمن الخطورة الأكبر بعد كل ماسبق سرعة انتشار هذا ( الفيروس ) لأن الناقلين له ينتشرون في الأماكن المأهولة والتي يرتادها الناس كثيراً لذا فاحتمالية انتشارة أكبر منها فيما لو كان الحاملون ( للفيروس ) لا يخالطون الناس كثيراً ، فإنه سيكون انتشاره أقل .

فلعل مثل هذه الدراسة تسهم في كشف هذا الداء وتحدده وترصده وتبين خطورته ليهب المجتمع لمعالجته وأخذ الحيطة والحذر منه ، وتحجيمه ، وتقديم العلاج المناسب لمن أصيب بهذا الوباء وتقديم اللقاحات المناسبة التي تضاد هذا (الفيروس العقلي) .

******
يتبع

موقع أصول الفقه