""بين العقل والشرع ""( تابع لسلسلة أدب التعامل مع الدليل)

المقال

""بين العقل والشرع ""( تابع لسلسلة أدب التعامل مع الدليل)

2974 | 12-09-2010 01:43

* توجه السفسطة – أنموذجاً- في العقليات !!...

من خلال الفقرات التالية :
** بين الشرع والعقل :
** بين القرمطة والسفسطة مع تحليل لماهية السفسطة :
** في سرداب السفسطة :
** قديماً :
** أنواع المسفسطين –غوصٌ في مجتمعهم- :
** علاجات السفسطة :
** المرأة والسفسطة :
** ملحظ دقيق وخطير :
** في نهاية المطاف نصل إلى جذور بذرة هذا الداء :
**(منهج مقترح) يرسم الأسس السليمة لترسيخ مبادئ الدين وفق منهج أهل السنة والجماعة لصد طوفان القرمطة والسفسطة:
** خاتمة
****************

** بين الشرع والعقل :

قد يتوهم البعض أن الشرع يعطل العقل الانساني ويلغي دوره ويحرم التعامل معه ، وكيف يتوهم هذا في شرع الله سبحانه والله تعالى هو خالق هذا الجهاز ومبدعه ، وهو من أودع فيه كل هذه القوى والمهارات ، وهو من جعله الخصيصة والميزة التي يتميز بها النوع الإنساني عن بقية الحيوانات .
بل جعله مناط التكليف يدور معه التكليف وجوداً وعدماً ، وهو من بدأ الوحي على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم بأول كلمة في الوحي (إقرأ ..) ومعلوم أن القراءة هي أكبر مغذيات العقل الإنساني ، وحث في كثير من الآيات على عمليات عقلية كالتفكير والتفكر والنظر والرؤية لأسرار الكون التي تعرّف العقل بربه وخالقه ، كما ذم التقليد والتعصب للآباء وهو ما يعد من أقوى الأوبئة التي تعطل العقل وتحجمه وتلغيه (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون ...) الآية.

كما ذم من يتبع الأوهام و الظنون والشكوك فقال : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسئولا ) فانظر كيف جعل التفكير من المسئوليات التي علينا القيام بها بجدية وحزم ومراقبة لله تعالى ولم يتركها تخرج عن طائلة المسئولية مثلها في العبودية لله مثل باقي الحواس الأخرى.

وعلى صعيد أتباع الشرع من علماء الأمة و مجتهديها فستنبهر عندما تطالع الثروة العلمية الهائلة من مؤلفات ودواوين جعلت العالم يقف احتراماً لهذا التراث الذي لم يسبق له مثيل في حضارات وثقافات الدنيا ، وعلى شتى أنواع العلوم مما يجلي أن هذا الدين يشجع ويأمر بما يوافق ويطور العقول .

ودعنا نقف قليلاً عند الفقه الإسلامي كفضاء فسيح يدور في فلكه كل ما يصدر من أفعال المكلفين ، لا شك أننا سنجد أن العقل المسلم بلغ أعلى درجات التفكير والفهم والتعاطي للمعلومات وتحليلها وإلا لما استطاع علماؤنا وفقهاؤنا أن يصلوا لهذا القدر العظيم من الطاقة الاستيعابية لكل حركة وسكنه تصدر عن الإنسان!!

والمراقب لحركة الفقه الإسلامي سيشدّه كثيراً التطوّر الذي يسير وفق ميزاني العقل والشرع وكيف يقوم تلقائياً بإتلاف بعض المنتجات التي لم تأخذ ترخيصاً من هذين الميزانين ،وترمى في سلة مهملات الفقه الإسلامي – إن صح التعبير – والتي اصطلحوا على تسميتها ((رخص العلماء)) ، تلك الفتاوى والأقوال الشاذة التي لم يكتمل نموها الاستدلالي الشرعي والعقلي ، ومن ثم نهوا عن تتبعها ؛ لأن المتتبع لها يمثل المتسولين الذين لا يجدون ما يسد رمقهم إلا في حاويات القمامة !! وهذا النوع من الناس لا يمكن أن تجده كظاهرة إلا في الدول الرأسمالية ولا يسمح المجتمع المسلم أن يصل الأمر ببعض أفراده إلى هذا الحد لأنه سيحتويهم ويسد حاجتهم لما فيه من قيم التكافل والتعاون المادي وحتى الفكري ، هذا الجزء الخفي في محركات المصانع الفقهية يسير بطريقة "أوتوماتيكية" تؤكد بوضوح أن هذا الدين الإسلامي يبني أمة متكاملة في التعاطي المعرفي ولم يأتِ بأي أمر يتناقض وما خلقه الله فيهم من عقول وأفكار سليمة من عيوب الشهوة والشبهة .

ومما يجلي هذا الكلام ما نراه من المشاريع العلمية والبحثية الخطيرة والضخمة في بيان التوافق بين العقل و الشرع ، والتي قام بها أفراد من الأمة في السابق ، ولا أبالغ لو قلت إن تلك الدراسات قد يعجز عنها كثير من مراكز الأبحاث والدراسات في زمننا الحاضر ، فانظر كتاب (درء تعارض العقل والنقل ) لابن تيمية في عشر مجلدات !! ، و( إعلام الموقعين ) لابن القيم ، و(الموافقات) و( الاعتصام ) للشاطبي .

هذه الكتب هي أقوى ما يبني ويبيّن الجسور التي طالما خفيت على البعض : سواء ممن تنكر للعقل وجرّمه وحرّمه لظنه أنه يخالف الشرع ، فجاءت تلك الكتب وغيرها لتبين وجوهاً عقلية ناصعة واضحة غير تلك الوجوه التي تعارضت مع الشرع ، وفي المقابل خفيت على بعض من تنكر للشرع ورد كثيراً من نصوصه ظناً منه أنها مصادمة لبعض الوجوه العقلية لجهلهم ببقية الوجوه ، فأتى هؤلاء الجبال الرجال من دهاقنة العقول وحفاظ المنقول ليكشفوا وجوها عقلية لا غبار عليها توافق الشرع وتؤكد أن أحكام الشرع أفضل ما يحقق المصالح للعباد ويدفع المفاسد عنهم ، هذه الكتاب ليست في جانب الفقهيات التي صال وجال فيها الفارس ابن القيم ، بل شملت التوحيد والعقيدة والإيمان كما هو ميدان ابن تيمية ، أو فيهما معاً كما في الشاطبي !! فانظر أخي إلى روعة بنيان هذا الدين المتكامل والمترابط !!

وختاماً (الحق ما شهدت به الأعداء) : وأختم تقريري هذا لقانون "توافق العقل الصريح الصافي مع النقل الصحيح" بما لا يبقى معه أي مجال للشك والتردد ، بأن الغرب الكافر في أوروبا وأمريكا استسلموا وانصاعوا لهذا القانون ، لا أقول هذا الكلام جزافاً بل هذا هو الواقع الذي أعلنه هؤلاء قبل عدة أشهر ، وصرحوا به في جميع وسائل الإعلام ، ولم يكن هذا التصريح والإقرار من بسطاء القوم أو من عوامهم بل صرح به كبار عباقرتهم وقادة الفكر والسياسة والاقتصاد لديهم - كرئيس الخزانة الأمريكية وقادة الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي – وذلك عندما نزلت بهم وبالعالم الكارثة الاقتصادية العالمية مما جعلهم يستقرؤن خطط الإنقاذ التي تخرجهم من هذا المأزق فبحثوا في جميع الحضارات والثقافات والدراسات وفوجئوا أخيراً أنهم و مع ما بلغوا من الرقي التقدم الهائل في كل مناحي الحياة ، إلا أنهم وجدوا أن المخرج الوحيد هو ما قرره الشرع الإسلامي ، وما سطره فقهاء المسلمين في دواوينهم التي طالما سخروا منها ومن المتتلمذين عليها في السابق فانظر كيف سقطت كل نظرياتهم وقوانينهم التي كانوا يرصدون لتطويرها مليارات الدولارات والكراسي البحثية والخبراء والعباقرة ، فلم تتماسك وانهارت في أقل من عقد من الزمان ، ورجعوا إلى هذا الفقه الذي لازال يتناسب مع الانسان منذ مئات السنين!! ولم يحظ ولو بالفتات مما حظيت به تلك الأنظمة ، بل كان الفقهاء من أفقر الناس كما يقول أحدهم :

إن الفقيه هو الفقير وإنما ::: راء الفقير تجمعت أطرافها !

ويقول الآخر وهو يحكي معاناة الفقهاء والفقر :

قلت للفقر أين أنت تقيم ؟ :: قال لي في عمائم الفقهاء .

إن بيني وبينهم لإخاء :: ومن المستحيل ترك الإخاء !!

فما سر استمرارية الفقه الإسلامي مع ضعف موارد الدعم بل مع عدمها ؟ وما سر سقوط وتهاوى بقية الأنظمة مع الميزانيات غير المحدودة التي رصدت لها ؟ وماذا يفيدنا إقرار الغرب بأن سفينة النجاة هي الاقتصاد الإسلامي مع أننا كنا رجعيين ومتخلفين في نظرهم ؟!! الجواب هو ما نختم به التقرير (أن الشرع هو النظام الموافق للعقل تماماً ) ولا أظن أنه قد بقيت أدنى شبهة ، ويا ليت الغرب يلتفت للعقيدة والتوحيد في الإسلام فلسوف يعرف أنها هي المعالج لبقية أزماتهم غير الاقتصادية التي يقاسون ويلاتها !! ولو حصل هذا بالفعل لاكتمل عندهم الأمن العقلي الذي لا يتحقق إلا بشريعة الله تعالى وبترك ما سواها من الشرائع !!

***********

يتبع :

موقع أصول الفقه