(( الدرس الرابع )) و (( والأخير ))

المقال

(( الدرس الرابع )) و (( والأخير ))

1894 | 28/09/2009
الدرس الرابع : درس في ميزان التعامل مع الناس ، وما ينظم العلاقة فيما بينهم ، وذلك أن الدرسين الثاني والثالث نظما العلاقة بين العبد وربه ، التي هي العبادة لله تعالى وفق ميزاني العبادة : وهما : الإخلاص : الذي يحسم أمر الشرك ، والمتابعة : الذي يحسم مادة البدع ، فهذا هو التحقيق الفعلي الشرعي ، وهو معنى : ( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
جاءنا شعبان ليقول كلمته في قانون التعامل مع الناس ، ولكي يعطي درساً في التوازن البديع الذي يقوم عليه الدين ، هذا التوازن الذي لا يهمل أي جانب من جوانب متطلبات حياة وسلوك الإنسان ، فكما أنه يحث على عبادة الله وتقواه ، فهو كذلك يحث على حسن الخلق فيما بين الناس ، " فأما من أعطى واتقى " و حديث : "اتق الله حيثما كنت .. وخالق الناس بخلق حسن" ، وفي الجزاء الأخروي جاءت الموازنة الحاسمة : بحديث : " أثقل شيء في الميزان : حسن الخلق " ، وفي الحديث الحسن :
سئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال :" تقوى الله ، وحسن الخلق " وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال الفم والفرج .
وأدلة هذا في الشرع متوافرة متكاثرة .
لكن شهر شعبان زاد المسألة تأصيلاً بأن حث على تفريغ خزانات النفوس من النفايات النووية الخطرة ، والوقود الشيطاني الذي طالما تعاهده إبليس بكل ما يملك من شركات عالمية ومعامل ومصانع إنتاج و تكرير لتلك المواد الخطرة على بني البشر ، فجاء شعبان ليخلص نفوسنا من تلك المواد والشحنات وينقي مواسير الدماء والتي طالما قامت بضخ تلك المواد السامة إلى ملك الأعضاء " القلب " فجعلته يعطي قرارات ملوثة وخطرة مزقت وحدة الجسد الواحد فصار كل عضو ينطوي على نفسه ، وينظر إلى بقية الأعضاء نظرة سوء وخوف بل وحقد وتربص ؛ لأنه –حسب ظنه الخاطئ- هي السبب فيما يعانيه من تسمم ووهن وتخلف ، وبادلته بقية الأعضاء نفس الدور ونفس الشعور ونفس النتائج ، وليت تلك الأعضاء حاولت فهم السبب الحقيقي وراء كل هذا الصراع داخل الجسد الواحد الذي ينتظر منه أن يكون كالبنيان المرصوص وأن يشد بعضه بعضاً وأن لا يسمح للقوى الشيطانية الخارجية أن تتدخل في شؤونه الداخلية لأن هذا التدخل إنما هو في الحقيقة لتمزيق ذلك الجسد وتفتيته من الداخل ومن ثم تكون العاقبة للأعضاء كعاقبة تلك القوى الشيطانية وهذا ما تسعى إليه الأخيرة .
فالسبب الحقيقي لتقاطع الأعضاء : إنما هو الشحنات الشيطانية التي شحنت بها النفوس ، والتي لو تركت كما هي لأحرقت الأخضر واليابس .
فجاء شعبان ليحل هذه المشكلة الكبرى : بأن تفرغ النفوس من تلك الشحنات بأنواعها : حقد حسد كره بغض ، ومولداتها : وهي ضيق الأفق والظلم والكبر ، وترمى بعيداً ولا يلتفت إليها وأن لا تكون وقوداً لأي محرك من محركات الأعضاء .
ولك أن تتصور معي كيف ستكون العلاقة وكيف سيصبح التماسك والترابط في مجتمع هذا نظامه .
هذا الدرس يرشدنا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله في الحديث الشعباني : " إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه : فيغفر للمؤمنين ، و يملي للكافرين ،
ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه " – حسّنه الألباني-
وفي الحديث المتقدم : " إن الله تعالى ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا ( لمشرك ) أو ( مشاحن )" الحديث .
ولست أتعجب من قرن الشرك بالتشاحن في هذا الحديث العظيم ؛ لأن الأول يشوب العبادة التي هي العلاقة بين العبد وخالقه ، والثاني يشوب الأخلاق والمعاملة التي هي العلاقة بين العبد والعبد .
وكلنا نعرف قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم " فهل بعد هذا البيان النبوي بيان ؟

((يتبع))
(( الدرس الأخير ))

الدرس الخامس : أن الله تعالى إنما خلقنا لديمومة عبادته ، وقال تعالى : " فإذا فرغت فانصب " ، " وأفضل العمل إلى الله تعالى أدومـه وإن قلّ " ، و "كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم ديمـة " ، و كان إذا عمل عملاً ثبّته " .

كل هذه المعاني طبقها حبيبنا - صلى الله عليه وسلم- في هذا الشهر عملياً ، وذلك أن أسامة بن زيد قال : قلت : يا رسول الله ، لم أرك تصوم شهراً من الشهور مثل ما تصوم شعبان قال : « ذلك شهر يغفل الناس عنه » .

فمن هنا علمنا درساً من دروس هذا الشهر وهو الديمومة في العبادات ، خصوصاً في الأوقات التي يغفل الناس فيها عن عبادة الرب ، ولو تأملنا فضيلة الصلاة في الليل والناس نيام لوجدناها من هذا القبيل ، ولا شك أن في هذا الأمر ترسيخاً وتوسيعاً لوقت العبادة وعدم تضييقها في بعض الأوقات دون بعض .

والمتأمل بواقعنا اليوم يجد أن من أنجع الحلول لمشاكل الفراغ القاتل الذي يعاني منه المجتمع عموماً والشباب خصوصاً أن نبث وننشر في الأوساط صنوف العبادات التي تستثمر وقت الشباب ؛ فيما يعود عليهم بالنفع لا أقول الأخروي فقط ، بل حتى الدنيوي فكثيراً من العبادات المتعدية لم تخرج عن أوراق كتب فضائل الأعمال ، وعند القلة من العباد والمتنسكين من العلماء والخاصة ، فلماذا لا تخرج هذه لتطبيقها على أرض الواقع ، بدلاً من السعي الدءوب في توسيع دائرة المباحات التي مع التساهل والتحايل ترعى حمى المكروهات والمحرمات ، والكثير منا – للأسف الشديد – يظن أن الإجازات وأوقات الفراغ هي فقط للمباحات والترفيه ، فلماذا لا نستقرئ كتب الفضائل لنخرج منها ما يمكن أن يكون مشاريع ترفيهية وبنفس الوقت تزيدنا تعبداً لله تعالى وتقرباً .فهل نعي هذا الدرس الذي يحتاج الكثير من الوقفات والتأملات والدراسات ؟؟.

في نهاية هذه الدراسة ألفت نظر القاريء الكريم أن الدافع لي بكتابة هذه الدراسة المتواضعة في هذا الشهر بالذات هي أني وجدت الكتاب والمتحدثين والموجهين (( يغفلون !! )) عن الوقوف مع هذا الشهر فأحببت أن اسهم بهذا الجهد البسيط ، وفي الحديث المتقدم قريباً يقول صلى الله عليه وسلم : " ذلك شهر يغفل الناس عنه " .

والله الموفق .

كتبه : يوسف بن هلال .

madani2000@gmail.com

( شعبان _ 1430هـ )

موقع أصول الفقه