** صوت العقل :: ونظرته للبدع **

المقال

** صوت العقل :: ونظرته للبدع **

1922 | 28/09/2009
((صوت العقل :: ونظريته في البدع ))
مما لا شك فيه أن العقل البشري يعد مصدراً أساسياً ، ورافداً قوياً من روافد الاختراع والاكتشاف والابتكار والاستدراك والتكميل .
وهذه المعاني لا يمكن أن يستغنى عنها أبداً ، لما لها من الإسهام الكبير في الرقي والتطوير الذي يسعى إليه الكبير والصغير والغني والفقير ، فلولا هذه الأمور لما تمّ الناقص ولبقي على عقدة النقص إلى ... ، ولولاها لما صحح الخلل الواقع أو المتوقع ، ولولاها لما كبر الصغير من الأفكار والمشاريع ، ولولاها لما تمكنا من الاستفادة من الكثير والكثير مما أودعه الباري –سبحانه- من الثروات الهائلة والخيرات الطائلة في هذا الكون الذي خلقه الله لنا ((هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً )) [البقرة:29>
، ولولاها لاستمرت الأخطاء السالفة فتتوارثها الأجيال تلو الأجيال .
لكن بتلك الاختراعات والاستدراكات والابتكارات والاكتشافات يصحح الخطأ وتسدد العيوب وتغلق الثغرات ويتمم ويكمّل النقص ويكبر الصغير ويستفاد من الثروة الكامنة في كل من الطبيعة و العقل الإنساني .
لذا فإن العقل سيسطر أسماء من أسهم في تلك الأعمال العقلية سيسطرهم في ذاكرة الزمان وستبقى أسماؤهم ونظرياتهم خالدة في مصانع ومعامل العقول ، فالإمام الشافعي مما زاده ترقياً في الزمان هو اكتشافه لعلم الأصول ، وأبو الأسود الدؤلي لعلم النحو والخليل للعروض ، بل وحتى الكفار كأديسون للكهرباء ....
هنا نقف ونقول لصوت العقل : إذن لماذا تقفون في وجه البدع مع أنها تحتوي كل ما ذكر من المعاني ؟
فيقول : هنا الأمر يختلف وذلك أن البدع تتمحور حول معاني الاختراع والاستدراك والتكميل للنقص والسد للثغرات ... ومن هنا حاربها الشرع بنصوص محكمة - لا تقبل النسخ ولا التأويل – و يعرفها الصغير قبل الكبير ، بل وجعل من مقاصد وأسرار التشريع الكمال والتمام والدوام والثبات والاستقرار ، لذا أغلق الشرع هذا الباب لما يتضمنه من اتهام الشرع بالنقص والخلل وعدم الكمال ، ولأن العقل البشري لم يهتد للشرعيات إلا بإرسال الرسل مع أنه اهتدى في العادات والمصالح الدنيوية ، مما يدل على أن العقل لا يمكنه وليس بمقدوره أن يشرع للناس العبادات والهيئات والقربات والشرائع والدين و" فاقد الشيء لا يعطيه" كما يقول العقل.
ولا غرو في منع الشرع للبدع لأن الشرع من الله الذي له الخلق والأمر وهو الحاكم سبحانه " إن الحكم إلا لله " فلو جعل معه حاكم آخر أو استئناف أو استدراك لأصبح له شريك في حكمه – تعالى الله عما يقول المبتدعون وعما يلزم من قولهم علوا كبيراً .
ثم إن المشارك في الحكم عندهم هو " العقل " فهل هذا المخلوق الضعيف يصلح شريكاً للخالق سبحانه لا أظن عاقلاً مهما بلغ من التغلغل بالابتداع يجسر على هذا ، مع أنه لازم لمذهبه وكما يقول العقل : " لازم القول ليس بقول لكنه يدل على فساد ذلك القول " .
وللمعلومية : أنا لا أقف ههنا محارباً للعقل أو مهمشاً لدوره أو ملغياً له بل أنا أتكلم باسمه في كل مقالاتي ، وأعرف قدره جيداً وأعلم أنه نعمة من نعم الله التي خص بها النوع الإنساني دون سائر المخلوقات الأرضية ، وهو أعز ما يملك الإنسان من النعم بعد نعمة الدين .
ولكن من كمال حبي له – أعني العقل- أن لا أكلفه مالا يطيق ، وأن لا أطلب منه ما لا يستطيع وما ليس بوسعه ومقدوره وإلا سيأتي بالعجائب ، وسيخرج عن نظامه وانتظامه ، وسيرتبك في تصوراته وأحكامه ، وسينحرف عن جادة النظر و الصواب ، إلى مزالق الاشتباه والارتياب ، وسيضِل بانحرافه الخلق الكثير ، فيكون كالمنبت " لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " ، فلم يوصل إلى الحق ، ولم يسلم من باطل وبدعة .
والمتأمل لشدة النهي عن البدع يعلم أن الشرع لم يحذر منها إلا وهو عالم أن هذا النوع من المخالفات الشرعية سيكون جبهة صراع يهجم من خلالها إبليس وجنوده ، وأن كثيراً من الحصون ستسقط من شراسة هذا الهجوم الشيطاني -من جهة- ، ومن ضعف الدفاعات التي وقفت لصد الهجوم -من جهة أخرى- من هنا نادى الشرع وبقوة إلى " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة "[الأنفال:60> وليست مطلقة لم تقيد بنوع من القوة فتبقى على إطلاقها ، لذا فهم بعض العلماء أن القوة هنا يقصد بها قوة الإيمان والعلم بالله تعالى فالآية تكلمت عن نوعي القوة المعنوية والحسية ، ورباط الخيل قوة حسية فالمعنى إذن في الأولى هو المعنوية ، يؤيد هذا أن الله جعل القرن العظيم سلاحاً قوياً في ردع أي هجوم فقال تعالى : " وجاهدهم به جهاداً كبيراً "<الفرقان 52 > أي بالقران ، وسماه جهاداً كبيراً ، مما يدل على أهمية الإعداد الجيد بالاعتصام بسلاحي الكتاب والسنة في صد أي هجوم شيطاني .
وبالفعل علمنا خطورة هذا الأمر الذي حذر منه الشرع المطهر فالناظر لحال الأمة وواقعها اليوم سيرى جلياً الحجم الكبير جغرافياً وتاريخياً لدولة البدعة ، بل إن الحصون التي لا تزال تقاوم البدع قد تمكن الشيطان الرجيم من اختراقها وزرع طابور خايس عفواً "خامس" يقوم بتحين الفرص لنشر بدعته كلما أحس بهامش سارع باستغلاله ، وهذا الطابور يسير بخطط وبروتوكولات محكمة جداً ، وذلك على غرار المكر الشيطاني فيبدأ بالاهتمام بالآثار بحراسات شرعية ثم تضمحل الحراسات الشرعية ثم يأتي جيل قادم فيجد الاهتمام من الآباء فيقول ماذاك إلا لتقديسها فما يلبث الأمر إلا ويكون كما في معابد الهند ، ولا أقول هذا رجماً بالغيب ولكن واقع بلدان المسلمين خير شاهد إذ لا فرق بين معبد هندوسي ومزار وضريح ولي لا فرق بالطقوس و التعبد ، بل بالمسميات فحسب ، وجزى الله خيرا بعض القنوات الفضائية التي بينت هذا بالصوت والصورة ، وبثته في أرجاء المعمورة ، ليحق الحق ويبطل الباطل .
لا أريد أن أكون محبطاً لكن الواقع لا يكذب فهو عين اليقين وحق اليقين ، فلم يبق إلا أن نسلم لتعاليم الشرع الكامل ونعتصم بها وندعو إليها بالحكمة والرحمة كما فعل سيد الدعاة - صلى الله عليه وسلم – وكما هو صنيع الصحابة الأخيار -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من أئمة الدين ، فلنقف صفاً واحداً ضد أي هجوم للشيطان خصوصاً فيما يتعلق بعقائد الناس فحمايتها هو من أوجب الواجبات ، فالنبي صلى الله عليه وسلم بقي في مكة عشر سنين لا يدعو إلا للعقيدة والتوحيد فقط ، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : قال عمرو بن عبسة السلمي - رضي الله عنه - كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء ، وهم يعبدون الأوثان ، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي ، فقدمت عليه ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفياً جرءاء عليه قومه ، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له : ما أنت ؟ قال : { أنا نبي } ، فقلت وما نبي ؟ قال : { أرسلني الله } ، فقلت : وبأي شيء أرسلك ؟ قال : { أرسلني بصلة الأرحام ، وكسر الأوثان ، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء } رواه مسلم .
ولو استشعر الدعاة أن انتشار البدع والشركيات إنما هو بسبب تقصيرهم هم في تبصير العوام بخطورة تلك الأمور لأن العوام لا علم عندهم .
وليس هذا طعناً في الدعاة – حاشا وكلا – بل هم على خير ولكن المزيد والمزيد فلا يزال دعاة الحق على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم .
وهناك نوعان من الدعاة سوى النوع الأول ننظر في حالهم بنوع تركيز في هذا التنبيه من باب : عرفت الشر لا للشر :: ولكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر :: من الناس يقع فيه
ومن باب : الوجه مثل الصبح مبيضُّ :: والشعر مثل الليل مسودُّ
ضدان لما استجمعا حسنا :: والضد يظهر حسنه الضدُّ
** نوع من الدعاة (( يخذلون )) إخوانهم دعاة العقيدة ونبذ البدعة : فيقولون أتركوا الناس لا تسببوا تفرقه للأمة هؤلاء عوام وجهال .. وغيرها من تبريرات للمنكرات وهذا والله غاية - الخذلان – ولك أن تتخيل لو انعدم دعاة التواصي بالحق ولم يبق إلا هؤلاء فكيف حال المنكرات .. الجواب : (عندك أنت).
وشابه هؤلاء المخذلون فريقاً من أصحاب السبت قال الله عن حالهم " وإذ قالت أمة منهم لما تعظون قوماً .. " فأجاب دعاة التواصي بالحق " قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون " ، ولا شك أن هذا من الخذلان فبدلاً من إنكار المنكر أنكروا على من أنكر المنكر وهذا والله من المنكر ...
** ونوع من الدعاة (( يخالفون )) أهل التواصي بالحق ، ويقررون تلك البدع ويتسولون لها من فتات ضعاف الأدلة والمستندات الواهية جداً والمتشابهة في بعض الأحيان فيجعلونها أصولاً يلوون لأجلها أعناق النصوص القطعية الراسخة المحكمة ويدرون بها تلك المحكمات ظلماً واعتداءا وجهلاً ، ويبثون تلك المتمسكات الواهية على سفر –جمع سفرة- الجرائد ليتغذى بها فقراء المعرفة فتسمم أفكارهم وتنطفئ أنوارهم ، فيتقمص أولئك الكتّاب دور الطاغوت الذي قال الله –تعالى- في بيان إحدى وظائف الطاغوت : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) ثم توعد من هذه وظيفته فقال تعالى : (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) نعوذ بالله من النار وكل عمل يوصل لها .
وقد كشف الباري مخطط أولئك والدافع الذي دفعهم لمثل هذا التضليل للناس ونشر الباطل بصورة الحق واتباع المتشابه من الأدلة ، وإذا عرف السبب بطل العجب –كما يقول العقل-
" منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات .. "[آل عمران:7> وبين هذا الفريق فقال : " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " وبين غايتهم من هذا الاتباع : " ابتغاء الفتنة " وهذا نوع منهم سبب انحرافهم كونهم أهل فتنة : مفتونون بمال أو منصب أو جاه أو تقليد لآباء أو أساتذة أو مذهب ، أو طبيعتهم وتركيبتهم النفسية تميل للعدوان وحب المخالفة والشقاق ، وحب الانتقام من المجتمع المحافظ وما ابو لؤلؤة المجوسي وعبد الله بن سبأ اليهودي ومن شابهم إلا مثال على الاندساس داخل المجتمع والانصهار فيه لتفكيكه وإثارة الفتنة فيه من الداخل.
ونوع من دعاة البدعة ((المخالفين للسنة)) سبب انحرافهم كونهم أعجبوا بآرائهم وعقولهم فكلفوا عقولهم التأويل للمتشابه والتعلق به وهم في الحقيقة ليسوا متأهلين لذلك فخانتهم عقولهم وحادت بهم عن مسلك الراسخين في العلم الذين آمنوا بالكل وردوا المتشابه إلى أصله وأمه الذي هو محكمات الشريعة وهذا مقلوب قانون الذين في قلوبهم زيغ حيث جعل هؤلاء المتشابه هو الحاكم والأصل فوقعوا بما وقعوا به من الانحراف ، فهذا النوع اتبعوا المتشابه لا لابتغاء الفتنة لأنهم لا يرى منهم إلا طيب النفس وحسن الخلق واحترام النصوص و الشرع نعم لكن مشكلتهم وسبب انحرافهم : " وابتغاء تأويله " .
إذا تقرر هذا فلو أردنا أن نلقي المسئوليات – وهذا ما تحبه النفوس كثيراً- فإن المسئولية الأولى هي على كل فرد بعينه لأن القبر هو في الحقيقة سجن انفرادي بمعنى الكلمة لن يدخل معك في قبرك أحد لا شيخ ولا ولي ولا نبي ولا ملك ولا أب ولا منصب .
ودعاة الحق عليهم مسئولية كبيرة ، والمخذلون عليهم مسئولية " قل خيراً أو اصمت " ، ودعاة البدعة -بنوعيهم- هم أخطر وأصعب الأرقام في هذه المعادلة ، وهم مركز التحكم وكنترول السيطرة وريموت التوجيه وهم الرقم السري الموصل إلى برنامج البدعة وبأيديهم مفاتيح صندوق البدعة وهذا يلقي أعظم وأخطر التبعات عليهم لأنهم باستطاعتهم لو اتقوا الله في الناس أن يقضوا على البدع التي زرعوها وغرسوها وتعاهدوها بالرعاية والسقاية فلو أوقفوا عنها الماء أو أهملوها أو قطعوها لماتت وارتاحت الأمة والأجيال القادمة منها ، وننادي هؤلاء الرعاة الرسميين للبدع أن يتقوا الله تعالى ، وإلا سيأتوا يوم القيامة بذنوبهم فقط .. لا والله بل بذنوب الأجيال التي تلحق بهم وتتعاهد بدعهم بعدهم ، وتكون من الأعمال التي تبقى صدقة " صدمة " جارية حتى بعد موت الإنسان ،
وقد قال أحد سلف الأمة : " طوبى لمن ماتت معه ذنوبه " لذا فإن بليت في البدع فإياك وإياك أن تكون داعية لها ، فلربما بردت جلدتك في قبرك ، أما أن تستمر تبعات أعمالك وأنت في قبرك فالأمر خطير جدا جدا .
وعوداً على أعلى المقال ، فإن المخترعين والمبدعين والمكتشفين والمبتكرين والمستدركين في الدنيويات يذكرون بالجميل ويسطرهم التاريخ بمداد الذهب والاهتمام ، حتى لو كانوا كفاراً .
أما من اخترع في الدين واستدرك على الشرع الكامل وابتدع وأحدث فإن العلماء لم يزالوا ولا يزالون على النكير لبدعهم و التبصير للأمة بخطورتها والتحذير من نهـج المبتدعة ، بل تبقى البدعة بحسب حجمها نقطة سوداء في سجل ذلك ، مع أن البدع ليست دركة بل دركات ، وليست ظلمة بل ظلمات.
* منها : بدعة الرفض وبدعة الخروج وبدعة الإرجاء وبدعة الاعتزال وبدعة التعطيل وبدعة التأويل وبدعة القبورية وبدعة التصوف .. إلى غيرها من البدع نسأل الله العصمة منها ، قليلها وكثيرها .
من هنا نخلص إلى أن العقل يحب الاختراع والاستدراك لكن متى ما بالغ وغالى الإنسان في هذه المعاني و أخرجها عن حدودها الدنيوية إلى الأمور الغيبية إلا وقد خرج عن مألوفات العقول وتقاذفته الأهواء لخروجه عن الغلاف الجوي للعقل فلم يعد تتحكم فيه الجاذبية العقلية –إن صح لي التعبير –
عذرا على الإطالة ....

ودمتم برعاية الله وحفظه عن البدع و دعاتها .. آمين .


وكتب :
يوسف بن هلال
يوم الأحد : 18/8/1430هـ
::: madani2000@gmail.com :::

موقع أصول الفقه